حب الآباء للأبناء حُبٌّ غريزيٌّ فطريّ لا يقدر إنسانٌ على دفعه أو منعه :
|
كما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام : ((الْوَلَدُ الصَّالِحُ رَيْحَانَةٌ مِنْ رَيَاحِينِ الجَنَّةِ)). [ فيض القدير عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ]
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :((قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ قُلْنَا : لَا ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ ، فَقَالَ : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا )).[ البخاري ومسلم عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
وهو حُبٌّ غريزيٌّ فطريّ لا يقدر إنسانٌ على دفعه ، أو منعه ، ولذلك كله وصَّى اللهُ الإنسانَ بوالديه ، ولم يوصِّ الوالدين بأولادهما ، لأن حبَّ الآباء للأبناء ورعايتهم طبع ، والطبع لا يحتاج إلى تكليف ، بينما رعايةُ الأبناء لآبائهم ليس طبعاً بل هو تكليف ، قال تعالى:﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(14)﴾ .( سورة لقمان)
المساواة بين الأبناء و البنات :
|
أيها الأخوة والأخوات ، حضوراً ومستمعين ؛ الإسلام والمساواة بين الأبناء ونظرته للإناث : إن الإسلام الذي يجعلُ الأطفالَ قرةَ أعين لابد أنْ تؤكِّد شعائرُه وآدابُه هذه النزعةَ الإنسانيةَ ، فالمساواة بينهم حتى في التقبيل أمرٌ يحتِّمه الإسلام ، وتُقِرُّه أوامره السمحة ، فما بالك في المساواة في العطية ، فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ :((انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي ، فَقَالَ : أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي ، ثُمَّ قَالَ : أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : فَلَا إِذًا)).[ البخاري ومسلم واللفظ له عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ]
أما الميلُ كلّ الميلِ إلى طفل بعينه دون إخوته ، أو إلى جنس من الأولاد دون الآخر ، فذلك ينافي نظرة الإسلام ، ومبادئه الصحيحة ، ومنطق المساواة التي بنيت عليها تعاليمه ، فلا تفرقةَ في الإسلام بين فتى وفتاة ، ولا بين ولد أو بنت ، بل كلاهما في كِفَّتَيْ ميزان ، لا يرجِّح أحدهما على الأخرى إلا بمقدار العلم الذي يحصله ، والعمل الصالح الذي يقدمه ، يقول سبحانه وتعالى :﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ .
( سورة آل عمران الآية : 195 )
إنّ الخروجَ عن منطقِ المساواةِ والحقِّ والإنصافِ ميلٌ عن الصراط المستقيم ، ولذلك نرى الإسلامَ يأمرُ بالمساواة بين الأولاد ، كما سبق ، حتى لا تتأذَّى مشاعرُ بعضهم ، وعواطفُ بعضهم الآخر ، فيُضمِرون السوءَ ، ويحلُّ البغضُ مكانَ الحبِّ ، والخصامُ محلَّ الوئامِ ، فيكون التعقيدُ ، والانحرافُ ، والشذوذُ ، والعُقدُ النفسيَّةُ ، والكَبْتُ ، والعزلةُ القاتلةُ التي تقتل الإحساسَ ، وتَئِد المشاعر .وكثيراً ما نهى الرسولُ عن تمييز الذكور ، وتفضيلهم على الإناث دون موجب ، بل إنه يرفع بذلك من شعور الإناث ، وإحساسهن بقيمتهن في الحياة ، فقد قَالَ :(( مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ وَضَمَّ أَصَابِعَهُ)).[ رواه مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
وقال أيضاً :((مَنْ عَالَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَرَحِمَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ)). [ رواه أحمد ، وأبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]
منعكس المص عند الوليد من آيات الله الدالة على عظمته :
|
والآن إلى الموضوع العلمي : يؤكِّد علماءُ نفسِ الأطفال ، أنَّ الطفلَ حينما يولد لا يملك أيَّةَ قدرة إدراكية ، بل إنّ كلَّ ما يتمتع به الراشدُ مِن إمكانات وقدرات ، ومفاهيم ومعقولات ، وخبرات ومؤهلات ، إنما هي نتيجة تفاعله مع البيئة ، وهذا فحوى الآية الكريمة : ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78)﴾ .( سورة النحل )
لكن منعكساً ـ على حدّ تعبير علماء النفس ـ يولد مع الطفل ، ولا يحتاج إلى تعليم ، إنه منعكس المصِّ ، إذ لولاه لما وجدتَ إنساناً واحداً على سطح الأرض في قاراتها الخمس ، إنَّ الطفلَ الذي يولد من توِّه لا يستطيعُ أن يتلقَّى توجيهاتِ والدِه في ضرورة التقامِ ثديِ أمِّه ، وإحكام إطباقهما ، ثم سحْبِ الهواء ، كي يأتيَه الحليبُ ، لا يستطيع أن يتلقى هذه التوجيهات بالفهم فضلاً عن التطبيق .
حليبَ الأم من آيات الله الكبرى الدَّالةِ على عظمته :
|
إنّ حليبَ الأم من آيات الله الكبرى الدَّالةِ على عظمته ، فهو يتغيَّر تركيبُه خلال الرضعةِ الواحدةِ ، يبدأ حليبُ الأمِّ بماءٍ كثير ، يقلُّ الماء ، ويزداد الدسم ، إلى أن تصبح الموادُ الدسمةُ في نهايةِ الرَّضعةِ أربعةَ أمثال ، فهل بالإمكان أنْ تغذِّي طفلاً بقارورةٍ ، وتتغيَّر نِسَبُ الدسم والمواد السكرية والمواد البروتينية في أثناء الرضعة الواحدة ؟شيءٌ آخر ، تتغيَّر تراكيبُ مقوّماتِ لَبَنِ الأمِّ بالكميات المعادِلة لنموِّ الصغير ، فكلّما نما الصغير الرضيع ازدادتْ الأحماضُ الأمينية ، والأملاحُ المعدنيةُ ، والمعادنُ النادرةُ، والفيتاميناتُ .أما الشيءُ الذي يُلفِتُ النظرَ فهو أنّ هذا الطفلَ الذي خلَقَهُ اللهُ عزَّ وجل أَوْدَعَ فيه خمائرَ هاضمةً بمقاديرَ تتناسبُ مع حليب الأمِّ ، فلو أرضعناه حليبَ البقر ، ولو كان طازجاً ، أو كان مجففاً لَعَجَزَ الطفلُ عن هضمه ، وتبقى كميّاتٌ كبيرةٌ من المواد الدسمة والبروتينيات والأحماض الأمينية دون هضم ، وطَرْحُ هذه الموادِ عن طريق الكُلْيَةِ يجْهِدُها ، لذلك نجد الطفلَ الذي يَرضعُ حليبَ البقر تجْهَد كُليتاه في طرح المواد الدسمة ، والأحماض الأمينية ، والبروتينات التي لم يستطع هضمها ، فخمائرُ الهضم عنده متوافقةٌ مع حليب الأمِّ ، وليست متوافقةً مع حليب البقر ، لأنّ في حليب البقر أربعةَ أمثالِ ما في حليبِ الأمِّ مِن الأحماض الأمينية 0قال العلماء : إنّ ارتفاعَ نسبة الأحماض الأمينية في الدم تُسَبِّبُ للطفلِ الرضيعِ القصورَ العقلي ، والآفاتِ القلبيةَ ، والآفاتِ الوعائيةَ ، وأمراضَ جهازِ الهضمِ والكبدِ ، الأمراضَ المزمنةَ التي تلازم الإنسانَ طوال حياته ، ولو سألتَ أطباءَ الأورامِ الخبيثةِ لأجابوك بقولهم : إنَّ المرأة التي تُرْضِع ابنَها مِن ثديها أقلُّ عُرْضةٌ للإصابة بوَرَم الثدي مِنَ المرأة التي لا تُرْضِع ابنَها مِن ثديها .. أي أن نسبَ أورامِ الثديِ الخبيثة في النساء اللواتي يُرضِعن أولادَهنَّ قليلةٌ جداً ، أما نِسَبُ الأورام الخبيثة في النساء اللواتي لا يرضعن أولادهن فهي نِسَبٌ عاليةٌ .
منهج الله عزَّ وجل في الرضاعة :
|
إنَّ العطفَ والحنانَ الذي يتلقّاه الطفلُ مِن أمّه في أثناء الرضاعة يكسبه رحمةً في قلبه ، تنعكس على علاقاته بمَنْ حوله في مستقبل أيامه ، قال تعالى :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ(233)﴾ .
( سورة البقرة)
وصيغة (يُرْضِعْنَ) جاءت خبراً في معرض الأمر ، أي أيتها الوالدات أرضِعْن أولادكن ، وكل أمر في القرآن يقتضي الوجوب ما لم تكن هناك قرينة تنصُّ على خلاف ذلك. وقد ألزمتْ حكوماتُ أكثرِ الدول معاملَ حليبِ الأطفالِ أنْ تكتب على كل عبوة : لاشيء يعدل حليب الأم 0وقد جرى بحثٌ علميٌّ تمّ في بلد متقدم ، قاسَ مستوى الذكاءِ الفطري لدَى عددٍ مِنَ الأطفال ، مِن شعوبٍ متعددةٍ ، بالنسبة للإرضاع الطبيعي والصناعي ، فكانت النتائجُ مدهِشةً : أطفالُ جُزُرِ الباسيفيك (PACIFIC)
يتمتَّعون بأعلى نِسَبِ الذكاءِ مِن بينِ مجموعةِ الأطفال الذين تناولَهم البحثُ ، وذلك بسببِ أنّهم لا يعرفون الإرضاعَ الصناعيِّ إطلاقاً ، لقد صدق الله العظيم إذ يقول : ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ .هذا منهج الله عزَّ وجل ، إنه تعليمات الصانع ، قال تعالى :﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ( وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) ﴾ ( سورة البلد)
وقد أحسن الشاعر حين قال : تداركْتَنا باللطف في ظلمة الحشا وخير كفيلٍ في الحشا قد كفلـتنا
وأسكنْتَ قلبَ الأمهاتِ تعطُّــفاً علينا و في الثديين أجريتَ قُوتَنا
وأنشأْتَنا طفلاً ، وأطلقت ألسـناً تترجم بالإقرار أنك ربــــناوعرّفتَنا إياك ، فالحمد دائــماً لوجهك ، إذ ألهمتنا منك رُشْـدنا
***
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني 0