رمضان .. شهر الفرح
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . أما بعد :
فإن الفرح والسرور مطلب ملحٌ ، وغاية مبتغاة ، وهدف منشود ، والناس كل الناس يسعى إلى فرح قلبه ، وزوال همه وغمه ، وتفرق أحزانه وآلامه .
ولكن قل من يصل إلى الفرح الحقيقي ، ويحصل على السعادة العظمى ، وينجو من الآلام والأتراح .
والحديث في الأسطر التالية حول معنى الفرح ، وأسبابه ، وموانعه .
وبعد ذلك نصل إلى معنى الفرح في الصيام ، وكيفية كون هذا الشهر الكريم شهر فرح .
أيها الصائم الكريم : الفرح لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب ، ونيل المشتهى ؛ فيتولد من إدراكه حالة ٌ تسمى الفرح والسرور .
كما أن الحزن والغم من فقد المحبوب ؛ فإذا فقده تولد من فقده حالة تسمى الحزن والغم.
والفرح أعلى نعيم القلب ولذته وبهجته ؛ فالفرح والسرور نعيمه ، والهم والغم عذابه .
والفرح بالشيء فوق الرضا به ؛ فإن الرضا طمأنينة وسكون وانشراح ، والفرح لذة وبهجة وسرور ؛ فكل فرح راضِ ، وليس كل راضٍ فرحاً.
ولهذا كان الفرح ضد الحزن ، والرضا ضد السخط ، والحزن يؤلم صاحبه ، والسخط لا يؤلمه إلا إذا كان مع العجز عن الانتقام .
ولقد جاء الفرح في القرآن على نوعين : مطلق ومقيد ؛ فالمطلق جاء في الذم كقوله -تعالى- : ( لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ) ، وقوله ( إنه لفرح فخور).
والفرح المقيد نوعان-أيضاً - مقيد بالدنيا ينسى فضل الله ومنته وهو مذموم كقوله -تعالى- : ( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) [الأنعام : 44].
والثاني كقوله -تعالى-
فرحين بما آتاهم الله من فضله) [آل عمران : 170 ].
ولقد ذكر الله -سبحانه- الأمر بالفرح بفضله ورحمته عقيب قوله : ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) [يونس : 57].
ولا شيء أحق أن يفرح به العبد من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة وشفاء الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة؛ الهدى الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين، وطمأنينة القلب به ، وسكون النفس إليه ، وحياة الروح به .
والرحمة التي تجلب لها كل خير ولذة ، وتدفع عنها كل شر وألم .
والموعظة التي هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
وشفاء الصدور المتضمن لعافيتها من داء الجهل، والظلمة ، والغي ، والسفه ، تلك الأدواء التي هي أشد ألماً لها من أدواء البدن.
فالموعظة ، والشفاء ، والهدى ، والرحمة هي الفرح الحقيقي ، وهي أجل من يفرح به ؛ إذ هو خيرٌ مما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها ، فهذا هو الذي ينبغي أن يفرح به ، ومن فرح به فقد فرح بأجل مفروح به ، لا ما يجمع أهل الدنيا فيها ؛ فإنه ليس بموضع للفرح ؛ لأنه عرضة للآفات ، وشيك الزوال ، وخيم العاقبة ،وهو طيف خيال زار الصبَّ في المنام ، ثم انقضى المنام وولى الطيف ، وأعقب مزاره الهجران .
فالدنيا لا تتخلص أفراحها من أتراحها ، وأحزانها البتة ، بل ما من فرحة إلا ومعها ترحة سابقة ، أو مقارنة ، أو لاحقة.
ولا تتجرد الفرحة ، بل لا بد من ترحة تقارنها ، ولكن قد تقوى الفرحة على الحزن ، فينغمز حكمه وألمه مع وجودها وبالعكس.
فالفرح بالله وبرسوله ، وبالإيمان ، وبالقرآن ، وبالسنة ، وبالعلم من أعلى مقامات العارفين ، وأرفع منازل السائرين ، وضد هذا الفرح الحزن الذي أعظم أسبابه الجهل ، وأعظمه الجهل بالله ، وبأمره ، ونهيه ؛ فالعلم يوجب نوراً ، وأنساً ، وضده يوجب ظلمة ويوقع في وحشة.
ومن أسباب الحزن تفرق الهم عن الله ؛ فذلك مادة حزنه كما أن جمعية القلب على الله مادة فرحه ونعيمه ، ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله ، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته ، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته ، وصدق معاملته ، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه ، والفرار منه إليه ، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه ، وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه ، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبة ، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ، ودوام ذكره ، وصدق الإخلاص له ، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبداً. [ انظر : مدارج السالكين لابن القيم [148/2 - 156].
هذا هو الفرح الحق ، وهذا هو فرح أهل الإيمان لا فرح أهل الأشر والبطران والطغيان.
هذا وإن للصائمين من هذا الفرح نصيباً غير منقوص ، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : " وللصائم فرحتان : فرحه عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ".
قال ابن رجب - رحمه الله -: " أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ، ومشرب ، ومنكح ؛ فإذا امتنعت من ذلك في وقت من الأوقات ، ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه ، خصوصاً عند اشتداد الحاجة إليه ؛ فإن النفوس تفرح بذلك طبعاً ؛ فإن كان ذلك محبوباً لله كان محبوباً شرعاً .
والصائم عند فطره كذلك؛ فكما أن الله - تعالى- حرم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام ، بل أحب منه المبادرة إلى تناولها من أول الليل وآخره ؛ فأحب عباد الله إليه أعجلهم فطراً ، والله وملائكته يصلون على المتسحرين ؛ فالصائم ترك شهواته في النهار تقرباً إلى الله ، وطاعة له ؛ وبادر إليها بالليل تقرباً إلى الله وطاعة له ؛ فما تركها إلا بأمر ربه ، ولا عاد إليها إلا بأمر ربه ؛ فهو مطيع في الحالين ؛ ولهذا نهي عن الوصال، فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقرباً إلى مولاة ، وأكل وشرب وحمد الله ؛ فإنه ترجى له المغفرة ، أو بلوغ الرضوان بذلك".
إلى أن قال -رحمه الله-: " ثم إنه ربما استجيب دعاؤه عند فطره ، وعند ابن ماجه : " إن للصائم عند فطره دعوة لا تردُ ".
وإن نوى بأكله وشربه تقوية بدنه على القيام والصيام كان مثاباً على ذلك ، كما أنه إذا نوى بنومه في الليل والنهار التقوي على العمل كان نومه عبادة.
ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه لم يتوقف في معنى فرحه عند فطره ؛ فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله ورحمته ، فيدخل في قوله - تعالى - : ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) [يونس :58 ] اهـ .
وقال ابن رجب -رحمه الله -: " وأما فرحه عند لقاء ربه ففيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخراً ؛ فيجده أحوج ما كان إليه كما قال - تعالى -: ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً ) [ المزمل : 20 ].
وقال -تعالى - : ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً ) [آل عمران : 30 ].
وقال -تعالى - : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) [ الزلزلة : 7 ]. ا هـ.
اللهم أفرح قلوبنا بالإيمان ، والقرآن ، والسنة ، والعلم ، والصيام ..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ..
محمد بن إبراهيم الحمد ..
( دار ابن خزيمة )