إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين*( الأنعام:79)
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم النصف الأول من سورة الأنعام, وهي سورة مكية, وتعتبر خامس أطول سور القرآن الكريم, إذ يبلغ عدد آياتها مائة وخمسا وستين(165) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي الأنعام في أكثر من موضع, ومن خصائصها أنها أنزلت كاملة دفعة واحدة, ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من العقائد والتشريعات الإسلامية.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة الأنعام وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والتشريعات, والقصص, والإشارات الكونية, ونركز هنا علي ومضة للإعجاز التاريخي والعلمي في الآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التاريخي والعلمي في الآية الكريمة
أولا: من أوجه الإعجاز التاريخي
هناك أكثر من أربعة عشرة موقفا وحدثا تاريخيا كبيرا في حياة أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذي جاء ذكره أكثر من(63) مرة في أربع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم, كما جاءت باسمه إحدي هذه السور( سورة إبراهيم) وهي السورة الرابعة عشرة في المصحف الشريف. بينما لم يرد من هذه الوقائع الكبري شيء يذكر في صحف الأولين عدا بعض الإشارات الهامشية من تاريخ حياته الشخصية وبعض رحلاته.
وهذه المواقف والأحداث الكبري في حياة نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ يمكن إيجازها فيما يلي:
(1) استنكار إبراهيم ـ عليه السلام ـ عبادة أبيه وقومه للأصنام وقيامه بتحطيم تلك الأصنام, ومحاكمته علي ذلك, والحكم عليه بالحرق حيا, وتنجية الله ـ تعالي ـ له من النيران( الأنبياء:51 ـ73, الشعراء:69 ـ89, الصافات:83 ـ113, العنكبوت:16 ـ27).
(2) واقعة تعرف إبراهيم علي خالقه من خلال التأمل في الكون( الأنعام:74 ـ90).
(3) واقعة الحوار بين إبراهيم ـ عليه السلام ـ وأبيه( الأنعام:74 ـ87, مريم:41 ـ50, الأنبياء:51 ـ73, الشعراء:69 ـ89).
(4) إيتاء إبراهيم النبوة, واستغفاره ـ عليه السلام ـ لأبيه...( البقرة:124 ـ130, آل عمران:33,... فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه... التوبة:114, مريم:41 ـ48).
(5) حوار إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع الملك الكافر مدعي الربوبية( البقرة:258).
(6) طلب إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتي( البقرة:260).
(7) إيمان لوط لإبراهيم وهجرته معه إلي أرض فلسطين( العنكبوت:26, الأنبياء:71).
(
أمر الله ـ سبحانه وتعالي ـ إلي عبده ونبيه سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ بوضع زوجه السيدة هاجر ـ عليها رضوان الله ـ ورضيعها إسماعيل ـ عليه السلام ـ عند مكان البيت( إبراهيم:35 ـ41).
(9) استجابة الله ـ سبحانه وتعالي ـ لدعوة عبده ونبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ بجعل أفئدة من الناس تهوي إلي منطقة البيت حيث وضع زوجه ورضيعها( إبراهيم:37).
(10) زيارة عدد من الملائكة في هيئة البشر نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ مبشرة إياه وزوجه( سارة) بغلام( علي كبر) هو إسحاق وتخبره عن إهلاك قوم لوط( هود:69 ـ76, الحجر:51 ـ58, الذاريات:24 ـ34).
(11) أمر الله ـ تعالي ـ لعبده ونبيه إبراهيم أن يذبح ابنه إسماعيل, ثم فداء الله ـ تعالي ـ له( الصافات:102 ـ107).
(12) أمر الله ـ تعالي ـ إلي كل من نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل ـ عليهما السلام ـ برفع قواعد البيت الحرام في مكة المكرمة( البقرة:127, الحج:26).
(13) الأمر من الله ـ سبحانه وتعالي ـ إلي عبده إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن يؤذن في الناس بالحج( الحج:26 ـ29).
(14) ثناء الله ـ تعالي ـ علي عبده ونبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع التأكيد علي وحدة رسالة السماء وعلي الأخوة بين الأنبياء جميعا( آل عمران:84, النساء:163, النحل:120 ـ123, مريم:58).
وورود هذه الوقائع بتفاصيلها, ووجود الأدلة المادية علي عدد منها( وذلك من مثل قيام بناء الكعبة المشرفة إلي اليوم, ووجود كل من الحجر الأسود, ومقام إبراهيم, وحجر إسماعيل, وبئر زمزم, ومجر الكبش, ورجوم الشيطان, ومسجد الخيف بمني, والمشعر الحرام بالمزدلفة, ومشهد الطير في مزارع شبعا, وغيرها من الآثار الباقية) مما يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, لأن أيا من كتب الأولين أو كتب التاريخ القديم لم يدون شيئا من ذلك كله.
ثانيا: من أوجه الإعجاز العلمي
يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في سورة الأنعام: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين* فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأي القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين* فلما رأي الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون* إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين( الأنعام:75 ـ79).
ومن أوجه الإعجاز العلمي في هذه الآيات الخمس ما يلي:
(1) التمييز الدقيق بين كل من الكوكب, والقمر, والشمس, في زمن لم يكن لأحد من المخلوقين القدرة علي هذا التمييز, خاصة في صحراء جزيرة العرب, وكانت غالبية أهلها من الأميين.
(2) التأكيد علي أن أفول( أي: غياب) أي جرم سماوي هو دليل علي حدوثه, وعلي تسخيره, ومن ثم فهو دليل علي نفي إمكان أن يكون مؤلها كما فعل الضالون من قوم إبراهيم ـ عليه السلام ـ ومن قبل زمانه ومن بعده, وهذا استنتاج علمي رصين, وذلك لأن حدوث الكون يحتم فناءه, كما يؤكد حدوث جميع المخلوقات وحتمية فنائها, والحادث الفاني محتاج إلي خالق أزلي باق فوق جميع خلقه( أي: فوق كل من المكان والزمان والمادة والطاقة والجمادات, والأحياء, والإنسان, والملائكة, والجن) حتي يكون مغايرا لخلقه مغايرة كاملة.
(3) الإشارة إلي أن الله ـ تعالي ـ هو خالق الخلق, ومبدع الوجود علي غير مثال سابق لأنه هو( الذي فطر السموات والأرض) والعلوم المكتسبة تحتم وجود مرجعية عليا للكون الذي نعيش فيه, وتعترف بضرورة مغايرة صفات تلك المرجعية لكل صفات المخلوقين فرادي ومجتمعين.
(4) إعطاء النموذج العلمي للتعرف علي الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ من خلال التأمل في بديع خلقه من مثل السموات والأرض. وذلك لأن الإبداع في الخلق هو من أوضح الأدلة علي الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ فالكون بكل ما فيه من موجودات, وحركة منضبطة لا يمكن لعاقل أن يتصور امكانية وجودها بمحض الصدفة أو لغير حكمة, أو أن كل موجود قد أوجد ذاته بنفسه, بل لابد له من موجد عظيم له من صفات الألوهية, والربوبية, والوحدانية, والخالقية ما مكنه من إبداع ذلك كله.
(5) الإشارة إلي أن الإيمان بالله ـ تعالي ـ مزروع في الفطرة السليمة( الجبلة الإنسانية), وأن الإنسان محتاج إلي إيقاظ تلك الفطرة بالتأمل في خلق الله ـ تعالي ـ, وبالاستماع إلي وحي السماء, مادامت الفطرة لم تفسد باغواء الشيطان أو بانحرافات الإنسان وفساد تصوراته. لأنه كلما بقيت فطرة الإنسان سليمة استطاعت أن تستشف دلائل الإيمان بالإله الواحد الأحد, الفرد الصمد, المنزه في أسمائه, وصفاته, وأفعاله عن جميع خلقه من تأمل الإنسان في إتقان خلقه هو, وفي إحكام خلق الكون الفسيح من حوله.
(6) أن الشرك بالله ـ تعالي ـ من نقائض الإيمان به, ومن القصور في فهم مدلول الألوهية بمعني معرفة الله ـ تعالي ـ, والإيمان به, وعبادته بما أمر, خاصة أن المتأمل في الكون يري وحدة البناء التي تشمله في ثنائية ظاهرة( من اللبنات الأولية للمادة إلي الإنسان) مما يشهد لخالقه بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه.
(7) أن الوحي المنزل في القرآن الكريم بالدروس المستفادة من قصة نبي الله وعبده إبراهيم ـ عليه السلام ـ يشير إلي ضرورة النظر في الكون للتعرف علي شيء من بديع صنع الله فيه, تأكيدا للإيمان بالخالق العظيم عن طريق الإدراك الحسي والوعي الملموس, وهو دعم للإيمان الفطري الذي غرسه الله ـ تعالي ـ في جبلة كل مخلوق, ثم علمه لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ لحظة خلقه وأنزله علي سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين, وأكمله, وأتمه, وحفظه في القرآن الكريم وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين), ولو قام كل إنسان عاقل بعملية التأمل الواعي في ذاته وفي الكون من حول وبقية الكائنات ما بقي علي وجه الأرض كافر أو مشرك, أو متردد في اعتقاده أو متشكك في الإيمان بالله( سبحانه وتعالي).
هذه هي بعض جوانب الإعجاز العلمي والتاريخي فيما أورده القرآن الكريم عن عبد من عباد الله هو إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذي نشأ في بيئة وثنية تعبد الأصنام والأوثان كما تعبد النجوم والكواكب, وتعبد ملوكها من دون الله ـ سبحانه وتعالي ـ, وتعرض الآيات لموقف الفطرة السليمة عند إبراهيم ـ عليه السلام ـ حين وقف متأملا في الكون من حوله, فعرف ربه من خلال التعرف علي بديع صنعه في خلق الكون من حوله, فاصطفاه الله ـ تعالي ـ وجعله نبيا رسولا.
وكل من الوقائع التاريخية والحقائق العلمية التي جاءت في الآيات(75 ـ79) من سورة الأنعام تشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون قد استعار شيئا من كتب السابقين, وأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق, الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم), وحفظه بعهده, الذي قطعه علي ذاته العلية, في نفس لغة وحيه( اللغة العربية), وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتي يبقي القرآن الكريم حجة الله البالغة علي جميع خلقه إلي يوم الدين.. فالحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.