تفسير سورة الفاتحة وحكم قراءتها في الصلاة
الحمد لله ، وصلى الله وسلم على رسول الله ، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فإن الله - جل وعلا - شرع لعباده في كل ركعة من الصلاة أن يقرأوا فاتحة الكتاب ، وهي أم القرآن ، وهي أعظم سورة في كتاب الله - عز وجل - كما صح بذلك الخبر عن النبي - عليه الصلاة والسلامأنه قال
(إنها أعظم سورة في كتاب الله ، وإنها السبع المثاني ، والقرآن العظيم ، وهي الحمد)).
هذه السورة العظيمة اشتملت على الثناء على الله وتمجيده - جل وعلا - وبيان أنه - سبحانه - هو المستحق لأن يعبد وأن يستعان به ، واشتملت على تعليم العباد ، وتوجيه العباد إلى أن يسألوه - سبحانه وتعالى - الهداية إلى الصراط المستقيم .
فمن نعم الله العظيمة على عباده هذه السورة العظيمة ، وأن شرع لهم قراءتها في كل ركعة في الفرض والنفل ، بل جعلها ركن الصلاة في كل ركعة ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام- : ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))[1]، وقال - عليه الصلاة والسلام- لأصحابه : ((لعلكم تقرأون خلف إمامكم))؟ قالوا : نعم . قال : ((لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب ؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها))[2] .
فالواجب على كل مصلٍّ أن يقرأ بها في كل ركعة ؛ في الفرض والنفل ، أما المأموم فعليه أن يقرأ بها في صلاته خلف إمامه ، فلو جهل أو نسي أو جاء والإمام راكع سقطت عنه ، فيحملها عنه الإمام ، إذا جاء والإمام راكع ودخل في الركعة أجزأته ، وسقط عنه وجوب قراءتها ؛ لأنه لم يحضرها ؛ لما ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أنه جاء والإمام راكع ، فركع دون الصف ثم دخل في الصف ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا بعد الصلاة ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((زادك الله حرصاً ، ولا تعد))[3]، ولم يأمره بقضاء الركعة ؛ فدل على أن من أدرك الركوع أدرك الركعة .
وهكذا لو كان المأموم جاهلاً أو نسي الفاتحة ولم يقرأها ، أجزأته وتحملها عنه الإمام ، أما من علم وذكر ، فالواجب عليه أن يقرأها مع إمامه ، كما يجب على المنفرد والإمام أن يقرأها ، وهي ركن في حق المنفرد ، وركن في حق الإمام .
وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((يقول الله - عز وجل - : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله - سبحانه - : حمدني عبدي ، وإذا قال العبد : الرحمن الرحيم ، قال الله - جل وعلا - : أثنى عليَّ عبدي ، وإذا قال العبد : مالك يوم الدين ، قال الله - سبحانه -: مجَّدني عبدي ؛ - لأن التمجيد هو : تكرار الثناء والتوسع في الثناء – فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين ، يقول الله - عز وجل - : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل))[4]
فقوله : إياك نعبد حق الله ؛ فإن حق الله على عباده أن يعبدوه ، وإياك نستعين حق للعبد أن يستعين بالله في كل شيء ، يقول الله - جل وعلا - : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[5] ، حق الله عليهم أن يعبدوه ، وفي الحديث الصحيح يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً))[6] . هذا حق الله على العباد ؛ أن يعبدوه بطاعة أوامره وترك نواهيه ، ويحذروا الشرك به - عز وجل - .
وتقدم في الدرس الماضي : أن أصل هذه العبادة وأساسها : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، هذا أصل العبادة وأساس العبادة : توحيد الله والإيمان برسوله - عليه الصلاة والسلام- .
فأعظم العبادة وأهمها : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فعلى كل مكلف أن يتعبد عن علم ويقين ، وصدق إنه لا إله إلا الله ، والمعنى : لا معبود حق إلا الله ، كما قال - تعالى - : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ[7] .
وعليه أن يشهد عن علم ويقين وصدق ، أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب هو رسول الله حقاً إلى جميع الثقلين - الجن والإنس - وهو خاتم الأنبياء ليس بعده نبي ، كما قال الله - عز وجل - :قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً[8] ، وقال - تعالى - : مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً[9] ، فعلى كل إنسان وعلى كل مكلف من الجن والإنس أن يعبد الله وحده ؛ هذا حق الله على عباده .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[10] : يجب على جميع الثقلين - جنهم وإنسهم ، ذكورهم وإناثهم ، عربهم وعجمهم ، أغنياؤهم وفقراؤهم ، ملوكهم وعامتهم - عليهم جميعاً أن يعبدوا الله بأداء ما فرض وترك ما حرم ، وعليهم أن يخصوه بالعبادة دون كل ما سواه ، قال - تعالى - : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[11] ، وقال - تعالى - :وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ[12] ، وقال - سبحانه - : وَقَضَى رَبُّكَ ؛ يعني : أمر بك وأوصى ربك أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[13] .
وفي هذه السورة يقول - جل وعلا - : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[14]، يعلمنا أن نقول : إياك نعبد وإياك نستعين ، هذا حقه - جل وعلا - إياك نعبد ؛ يعني : وحدك بدعائنا وخوفنا ورجائنا وصومنا وصلاتنا وذبحنا ونذرنا ، وغير هذا من العبادات كلٌ لله وحده ، كما قال - جل وعلا - : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ[15] .
فالذين يتقربون إلى الأصنام أو إلى الأموات من الأولياء وغيرهم بالدعاء أو الرجاء ، أو الذبح أو النذر أو الاستغاثة ، قد عبدوا مع الله غيره ، وقد أشركوا بالله غيره ، ونقضوا قول : لا إله إلا الله ، وخالفوا قوله - تعالى - : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، فالعبادة حق الله ، ليس لأحد فيها نصيب .
فالواجب على كل مكلف أن يعبد الله وحده ، والواجب على كل من لديه علم أن يعلِّم الناس وأن يرشد الناس وأن يعلم أهله ومن حوله ، وأن يرشد الناس إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له - جل وعلا - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ[16] .
فعلى جميع المكلفين أن يعبدوا الله ، وأن يخصوه بالعبادة ؛ بدعائهم وذبحهم ونذرهم وصلاتهم وصومهم وغير هذا من العبادة .
وبهذا نعلم أن ما يفعله بعض الجهلة عند القبور - قبور الصالحين ، أو من يزعم أنهم صالحون - من دعائهم ، أو الاستغاثة بهم أو النذر لهم ، أن هذا هو الشرك الأكبر ، وهذا دين الجاهلية ، ويجب الحذر من ذلك .
وهكذا البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها هو من وسائل الشرك ، وهو من عمل اليهود والنصارى ؛ فيجب الحذر من ذلك .
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((لعن الله اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))[17] .
فالواجب عليك – يا عبد الله – وعليك – يا أمة الله – الانتباه لهذا الأمر ، والعلم بهذا الأمر ، وأن العبادة حق الله وحده ، ليس لأحد فيها نصيب .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ؛ هذا حق الله أن نعبده وحده ، وأن نستعين به وحده ؛ فلا يجوز أن يدعى مع الله - سبحانه - إله آخر ؛ لا نبي ولا غيره - لا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره ، ولا البدوي ولا الحسين ولا علي ولا غير ذلك - العبادة حق الله وحده ليس لأحد فيها نصيب ، قال - تعالى - : وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[18] ، وقال - سبحانه - : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ، يخاطب نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[19] .
سيد الخلق لو أشرك بالله لحبط عمله ، فكيف بغيره ؟ وقد عصمه الله من ذلك وحفظه ، وقال - تعالى - : إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[20] .
فالشرك هو أعظم الذنوب وأسوأها وأخطرها ؛ فالواجب الحذر منه ومن وسائله ، يقول الله - سبحانه - : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[21] . من مات على التوحيد والإخلاص لله والإسلام فهو من أهل الجنة .
لكن إن كانت له ذنوب وسيئات فهو على خطر ؛ قد يغفر له وقد لا يغفر له ، وقد يعذَّب بمعاصيه ؛ ولهذا قال - سبحانه - : وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ؛ فإذا مات على شرب الخمر ، أو على عقوق الوالدين أو أحدهما ، أو على أكل الربا ، أو على ظلم الناس ، فهو على خطر عظيم من دخول النار ، وقد يغفر له وقد لا يغفر ، إلا أن يتوب قبل موته توبة صادقة ؛ فمن تاب ، تاب الله عليه .
وقد دلت السنة المتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كثيراً من العصاة يعذبون في النار على قدر معاصيهم ولا يغفر لهم ، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه يشفع في جماعة من العصاة ، فيحد الله له حداً فيخرجهم من النار ، ثم يشفع فيحد الله له حداً فيخرجهم من النار ، ثم يشفع فيحد الله له حداً فيخرجهم من النار ثم يشفع فيحد الله له حداً فيخرجهم من النار التي دخلوها بذنوبهم ، ويبقى في النار بقايا من أهل التوحيد دخلوا النار بمعاصيهم ، فيخرجهم الله من النار بفضله ورحمته - جل وعلا - .
فاتق الله - يا عبد الله - واحذر السيئات ، احذر المعاصي كلها ، والزم التوبة دائماً لعلك تنجو : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[22] .
فأنت على خطر إذا مت على معصية ؛ على الربا ، على الزنا ، على العقوق ، على شرب المسكر ، على ظلم الناس والعدوان عليهم ، على الغيبة والنميمة ، فأنت على خطر ؛ فحاسب نفسك ، وجاهد نفسك ، وبادر بالتوبة قبل أن يهجم الأجل .
واعرف معنى قوله - سبحانه - : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وأن الواجب عليك أن تخص الله بالعبادة دون كل ما سواه ؛ فهو المستحق لأن يعبد ؛ فهو الذي يدعى ويرجى ويخاف ويتقرب إليه بالصلاة والصوم والحج والنذر والذبح وغير ذلك ، قال - تعالى - : قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ؛ يعني : ذبحي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[23] ، وقال - تعالى - : إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ لْكَوْثَرَ . فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ[24] ، وقال - تعالى - : وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً[25] ، وقال - سبحانه - : وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[26] ، وقال - جل وعلا - : ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ[27] .
جميع من يدعوه الناس من دون الله ما يملكون من قطمير ؛ وهو : اللفافة التي على النواة إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[28] .
فالواجب : الحذر من دعاء غير الله أو الشرك بالله ، والواجب : توجيه القلوب إلى الله - عز وجل - وإخلاص العمل لله وحده في صلاتك وصومك وسائر عباداتك .
فقوله - تعالى - : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، يقول الله
(هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل)).