أ ـ قال المعترضون إنه بما أن محمداً كان قد عزم على إنقاذ العرب وتحريرهم من عبادة الأصنام وهدايتهم إلى عبادة الله، وبما أنه كان يعرف أنهم كانوا في زمن إبراهيم مؤمنين بوحدانية الله، وبما أنهم حافظوا على كثير من العادات والفروض بطريق التوارث عن آبائهم الأتقياء، فإنه لم يُلزِمهم أن يتركوها كلها، بل بذل الجهد في إصلاح ديانتهم، وإبقاء كل عادة قديمة رأى أنها موافقة ومناسبة. فقال: »ومن أحسن ديناً ممَّن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً« (سورة النساء 4: 125)، وقال: »قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين« (سورة آل عمران 3: 95)، وقال: »قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين« (سورة الأنعام 6: 161). وبما أن محمداً ظن أن العرب حافظوا من عصر إبراهيم على جميع عاداتهم وفروضهم، ما عدا عبادة الأصنام والشِرك ووأد البنات والأطفال وما شاكل ذلك من العادات الكريهة، أبقى كثيراً من هذه العادات الدينية والأخلاقية في ديانته وحافظ عليها
ومعروفٌ أن بعض قبائل جنوب بلاد العرب وشرقيها اختلطوا مع نسل حام بن نوح، وقال ابن هشام والطبري وغيرهما إن كثيرين من سكان جهات بلاد العرب الشمالية والغربية تناسلوا من سام بن نوح، وبعضهم تناسل من قحطان (يقطان)، وبعضهم تناسل من أولاد قطورة زوجة إبراهيم الثانية، وتناسل البعض الآخر (ومنهم قبيلة قريش) من إسماعيل بن إبراهيم. ولا ينكر أحد أن جميع القبائل التي تناسلت من ذرية سام كانوا يؤمنون بوحدانية الله. ولكن مع مرور العصور أخذوا الشرك وعبادة الأصنام من القبائل السورية وسكان الجهات المجاورة لهم، وأفسدوا ديانة أسلافهم، وفسدوا هم أنفسهم. ومع ذلك، لما نسيت جميع الأمم الأخرى (ما عدا اليهود) وحدانية الله، كان سكان الجهات الشمالية والغربية من شبه الجزيرة العربية متمسكين بالوحدانية تمسكاً راسخاً. والأرجح أن دخول عبادة الشمس والقمر والكواكب بين سكان تلك الجهات بدأ في عصر أيوب (أيوب 31: 26-28). وقال هيرودوت، أشهر مؤرخي اليونان (نحو 400 ق م) إن العرب سكان تلك الجهات كانوا يعبدون معبودين فقط، هما »أُرُتال« و»ألإلات« (تاريخ هيرودوت، كتاب 3 فصل . وقصد هيرودوت بالمعبود »أُرُتال« الله، فإن هذا هو اسمه الحقيقي. ومع أن هيرودوت زار بلاد العرب، إلا أنه كان أجنبياً، فلم يتيسَّر له ضبط هذا الاسم، فحرَّفه لجهله باللغة العربية وتهجئتها والنطق بها. ومن الأدلة القوية الدالة على أن هذه التسمية (أي الله) كانت مشهورة ومنتشرة بين العرب قبل زمن محمد، أنه كثيراً ما ذُكر اسم الله في سبع معلَّقات العرب (وهي تأليف مشاهير شعراء العرب قبل مولد محمد، أو على الأقل قبل بعثته) فقد ورد في ديوان النابغة ما نصه
:لهم شيمةٌ لم يعطها اللهُ غيرَهم من الجود والأحلام غير مَوَازِبِ
محلَّتهم ذاتُ الإلهِ ودينُهم قويمٌ فما يَرجون غيرَ العواقبِ
وأيضاً
:ألم ترَ أن اللهَ أعطاك سورةً ترى كل مَلِكٍ دونها يتذبذبُ
أنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ إذا طلعَت لم يبْدُ منهنَّ كوكبُ
وأيضاً
:ونحن لديه نسألُ اللهَ خُلْدَهُ يردُّ لنا مُلكاً وللأرض عامراً
ونحن نزجّي الخُلد إن فاز قِدْحُنا ونرهبُ قِدحَ الموتِ إن جاء قاهراً
وقال لبيد في ديوانه
:لعمرِك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجراتُ الطيرِ ما اللهُ صانعُ
الخاتمة :
لا يبدو أننا نسير على طريق سَويّ رغم ادعاء مرورنا بتاريخ عريض من الرقي والتحضّر بحكم انفتاحنا على حضارات عدة، ولكن يبدو أننا وقفنا على أعتابها فقط متفرّجين دون الاستفادة من مرورنا ذاك فنكصنا إلى مقولتنا الأثيرة “انصر أخاك ظالماً ومظلوماً” لنكرّس حياتنا من جديد لمفاهيم جاهلية في عصر لن يلتفت للوراء أبداً، فمضت كل الشعوب بما اكتسبت في مسيرتها وتأخرنا نحن رغم إرادتنا الكبيرة التي نراهن عليها، وعلى ما يمكن أن تحققه مفاهيم لازلنا نلوكها بتلذذ كالحرية واحترام الإنسان لأخيه الإنسان وعدم توزيع التهم على الآخرين دون حساب رغم كل الاختلافات
.
إن أشد ما يؤلم هنا هو استنفار مثقف وشاعر ليستجدي أقلام أصدقائه ضد من يرى أنهم – ربما – اقتبسوا مفردتين أو ثلاثة من قصيدة له ضمنوها قصائد بأسمائهم رغم اختلاف الصورة والبناء والرؤية. وليس هذا بالمهم، فتاريخ الاقتباسات مليء بأكثر من هذا، ولكن المهم حقاً، أو ما ينبغي التوقف عنده أن هذه “الفزعة” كانت من الخطورة بحيث لم يحسب حسابها أصدقاء الشاعر حين نصّبوا من أنفسهم قضاة بعد أن أوجدوا التهمة ثم صاغوا حكمهم بتجريم هذا الشاعر وكل ما في أيديهم أرباع أدلة قد لا تصمد كثيراً بوجه أي تمحيص منصف، فقد غفلوا تماماً في غمرة “فزعتهم” أن مثل هذه الاتهامات والتقريرات المسبقة التمترس
من النوع الذي يعاقب عليه القانون الجزائي في أي بلد في العالم إذا ما طالب الشاعر المتهم “جرّهم” إلى المحكمة بادعاء اتهامهم له بقائمة كبيرة من التهم مثل (سطى، سرق، لطش، لص، محتال، سارق
).
إن مقولة الغابرين تلك أعمت بصر وبصيرة أصدقاء الشاعر فتخلوا عن مقولاتهم العظيمة في المبادئ والأخلاق والقيم العليا التي يتنافخون بها ضد التمترس و “الإخوانية”، وأثبت هؤلاء أن هذه الشعارات مجرد كلام ليل يمحوه الارتطام على صخرة الجاهلية. وهنا؛ هنا فقط، تختفي أقنعة وتظهر وجوهٌ على حقيقتها
.